إبداعات الماضي والحاضر: ضريحان شريفان يُصنعان بأيادٍ عراقية

article image

لا يختلف العراقيون عن بقية شعوب العالم في إبداعاتهم وابتكاراتهم، بل لهم ما يمثّل السبق والتميّز والشواهد عليه كثيرة في مختلف مجالات الحياة على مرّ التاريخ، وتتناول هذه المقالة صنعهم لضريحين شريفين، أحدهما قبل أكثر من مئة عام في العتبة الكاظمية المقدسة، والآخر الذي تم نصبه مؤخراً في العتبة العباسية المقدسة:
(1)
ضريح الإمامين الجوادين عليهما السلام الذي نُصب عام 1324هـ/ 1906م
ذكر الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه "تاريخ المشهد الكاظمي" (الطبعة الأولى 1387هـ والثانية 1435هـ) أن الشاه عباس الكبير زار المشهد الكاظمي سنة 1032هـ (1623م) وكان من أبرز أعماله أمره بصنع ضريح ضخم من الفولاذ يوضع على الصندوقين، وبالنظر إلى ما حدث بعد ذلك من تأزم في العلاقات السياسية بين إيران وتركيا فقد تأخر إرسال هذا الضريح حيناً من الدهر استمر حتى عام 1115هـ (1703م)، وكان هذا الضريح على جانب كبير من الضخامة والفخامة. وقد ذكر هذا الضريح ناصر الدين شاه في رحلته حينما زار العراق سنة 1287هـ (1870م) ووصفه بأنه كبير جداً. وأشار الشيخ راضي آل ياسين في أوراقه المخطوطة أن الضريح الفولاذي أرسله الشاه حسين وعيّن لنقله وفداً عظيماً من العلماء والوزراء وأعيان الدولة، وأهل الحرم السلطاني. وفي كتاب "الفوائد الرضوية" أن عدد الوفد كان قرابة عشرة آلاف.
وفي يوم الخميس 17 جمادى الثانية سنة 1324هـ (8 آب 1906م) نُصب أول ضريح فضي على القبرين الشريفين، وكان بنفقة العلوية الحاجة سلطان بكم بنت المرحوم مشير الملك السيد الميرزا أبي الحسن العلوي الشيرازي المتوفى نحو 1302هـ. وكان إنفاقها هذا باقتراح وتشجيع من السيد الحاج الميرزا محمد كاظم الطباطبائي التاجر الأصفهاني المتوفى سنة 1325هـ. وقد بُدئ بعمله في سنة 1323هـ وانتهى في التاريخ المشار إليه آنفاً، وبلغ مجموع ما استهلك من الفضة مائتين وخمسين ألف مثقال تقريباً، وكان القائم بصياغة الضريح السيد محسن بن السيد هاشم الورد الصائغ الكاظمي يعاونه في ذلك كلٌّ من السيد محمد علي الصائغ الكاظمي والميرزا محمد الشيرازي النجفي، وكان الحاج محمد علي النجار الكاظمي هو القائم بصنع هيكله الخشبي. وأرّخه السيد صدر الدين الصدر بقوله:
ضريح قدسٍ شيّدوه لمن ***** سما ثنائي بهما والمديح
مُذ تمَّ حُسناً جاء تاريخُهُ ***** سنا الجوادين أزانَ الضريح

وذكر الشيخ راضي آل ياسين أيضاً في أوراقه المخطوطة أن الشعراء والأدباء وأهل الفضل في الكاظمية وكربلاء والنجف نظموا تواريخ كثيرة لتأسيس هذا الأثر الشريف، تنيف على العشرين تاريخاً ومنها التاريخ الوارد آنفاً. وورد في كتاب "الحقيبة" المخطوط للسيد علي السيد حسن الصدر تاريخ السيد محمد مهدي السيد إسماعيل الصدر:
لموسى والجواد ضريح قدسٍ ***** تقاصر عن محاسنه المديح
بعون الخمسة الأشباح أرّخ ***** لموسى والجواد سما الضريح
ونقل أيضاً المعلومات التي أوردناها عن الضريح الفضي الشيخ جعفر النقدي في كتابه "تاريخ الإمامين الكاظمين عليهما السلام وروضتهما الشريفة" (الطبعة الأولى 1369هـ والثانية 1435هـ) عن كتاب "الحقيبة" آنف الذكر، وأضاف أن ما أُنفق على الضريح من الصياغة والنجارة وغير ذلك حتى نصبه خمسين ألف تومان إيراني.
والملفت للنظر أنه على الرغم من مستوى التقنية والأدوات والمواد التي كانت موجودة في ذلك الوقت موازنة بما هو متاح الآن فإن وقت الانجاز كان أقل من سنة ونصف حيث كانت بداية العمل عام 1323هـ كما في كتاب "تاريخ المشهد الكاظمي" (ولا نعلم متى بالضبط) والانتهاء منه أواسط عام 1324هـ .
ووصف الشيخ محمد حسن آل ياسين الضريح الفضي بأن طوله يبلغ 74ر6 متراً وعرضه 17ر5 متراً، وترتفع أعلى نقطة فيه قرابة ثلاثة أمتار ونصف المتر عن الأرض، وهو مشبك ومنقوش على نحو جميل جداً، وقد أُقيم الضريح على قاعدة من الطابوق والاسمنت مغلّفة من خارجها بالرخام، تعلو عن أرض الروضة 22 سنتمتراً، ويعلو فوقها المشبك بارتفاع 142 سنتمتراً وبعرض 107 سنتمتراً لكل نافذة منه، ويفصل بين كل نافذة وأخرى فاصل أو عمود مطلي بالفضة بعرض 20 سنتمتراً. ثم دبَّ التلف إلى بعض جوانب الضريح وعلاها الصدأ فتم تجديد تلك الجوانب عام 1359هـ (1940م) كما جاء في مادة التاريخ التي نظمها الشيخ حسن آل أسد الله بجملة ((عمّر الضريح)) وكان السيد عباس بن السيد محسن الورد الكاظمي هو الصائغ الذي أُوكلت إليه مهمة التجديد ومعه أبن أخيه السيد محمد بن السيد هاشم الورد الكاظمي (كما هو ظاهر في الصورة).
في عام 1426هـ (2005م) أزيل الضريح الفضي بعد مرور أكثر من مئة عام على نصبه، ونُصب محله ضريح آخر كان المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قد أوصى بصنعه وبقي سنين كثيرة في إيران بسبب ظروف البلد، وعند نصب الضريح الجديد وجدوا أن الضريح الفضي الذي تمت إزالته كان يضم في داخله الضريح الفولاذي القديم الذي سبق نصبه عام 1115هـ.
(2)
ضريح العباس عليه السلام الذي افتُتح مساء الأربعاء 12 رجب 1437هـ/ 20 نيسان 2016
صُنع الشباك الجديد لضريح المولى أبي الفضل العباس عليه السلام في ورش العتبة العباسية المقدسة بمواصفات عالية المتانة والجودة والدقة، ويمتاز بخصائص جديدة وفريدة تُضاف إلى خصوصية انفراده أصلاً بجمالية نقوشه وزخارفه الموجودة في جميع قطعه وتميزه عن باقي الأضرحة في العالم.
إن تصميم الشباك الجديد مماثل للشباك القديم من حيث الهيكل العام والنقوش مع إضافات وتطويرات وتعديلات، وتم الإبقاء على التصميم العام نفسه بسبب تفرده بين أضرحة العتبات المقدسة. وتجدر الإشارة إلى أن الشباك القديم مصنوع في عام 1384هـ بتمويل من المرجع الديني الأعلى حينذاك سماحة آية الله العظمى السيد محسن الحكيم.
استخدم في عمل الشباك الجديد (410) كيلو غراماً من الذهب الخالص، و(2700) كيلو غراماً من الفضة النقية، وبلغ مجموع الأوزان الكلية للمعادن المستخدمة في صناعة الشباك الشريف (من الذهب والفضة والنحاس والحديد غير القابل للصدأ) بحدود (5500) كيلو غراماً، كما استخدم في صناعته أجود أنواع الخشب وبعشرة أنواع ملونة بوزن تقريبي (5500) كيلو غراماً أيضاً، وبذلك يكون الوزن التقريبي للشباك الشريف (11) طناً تقريباً.